عادل اليماني يكتب..كأَنّي أَكَلْتُ !

    عادل اليماني يكتب..كأَنّي أَكَلْتُ !

في بلادِ اللهِ ، آلافُ المساجدِ ، كلٌّ منها يحملُ اسماً يخصُه ، ويدلُ علي الرسالةِ المرجوةِ منه ، فهَذَا ( التقوي ) وذاكَ (الإيمانُ ) وثالثُهم ( الرحمةُ  ) وغيرُ ذلكَ .

وكثيراً ما تتشابهُ الأسماءُ ، وقليلاً تختلفُ ، لكنَّها ، وفي كُلِّ الأحوالِ ، تسيرُ في نَسقٍ واحدٍ ، وهو الإيمانُ باللهِ تَعَاَلي ، إذ هو منهاجُ كُلِّ المساجدِ ، في كُلِّ زمانٍ  ومكانٍ .

( كأَنّي أَكَلْتُ ) ! لَيْسَ وصفاً لحالٍ ، بل اسمٌ لمسجدٍ ! نوعٌ غريبٌ من الأسماءِ .

كيفَ ذلكَ ؟ وما معني هَذَا الاسمِ العجيبِ؟!  الذي يبتعدُ كثيراً عن توقعاتِ ومُراداتِ أسماءِ بيوتِ اللهِ .

وراءَ الأمرِ قصةٌ لا تخلو من الغرابةِ والإلهامِ .

 تبدأُ قصةُ هَذَا  المسجدِ العريقِ ، الذي بُني منذُ نحوِ  أربعمائة عامٍ ، في العهدِ العثمانيِّ ، بأحدِ ضواحي إسطنبول ، على يدِ رجلٍ يُدعى (خيرَ الدِين كججي أفندي ) وكانَ الرجلُ حقاً وصدقاً ، خيراً للدِين .

 يُحكى أنَّ هَذَا الأخيرَ ، كانَ يمشي بالأسواقِ ، ويرى الأطايبَ من الطعامِ والشرابِ أمامَه ، مستشعراً الرغبةَ فيها ، والضعفَ أمامَها ، شأنُه شأنُ الناسِ جميعاً ، لكنَّ خيرَ الدِين ، كانَ له رأيٌّ آخرُ ! فلم يسعَ لإرضاءِ شهواتِ نفسِه ، بل كانَ يضعُ ثمنَ ما اشتهاه في صندوقٍ ، يحتفظُ به في بيتِه ، مواسياً نفسَه ، ومحاولاً إقناعَها ، بأنَّه نالَ ما اشتهي ، مردداً :   كأَنّي أَكَلْتُ !

تمرُ الأيامُ ، وتتوالي السنون ، ويُصبحُ الصندوقُ قادراً علي بناءِ مسجدٍ متواضعٍ ؛ لتتحققَ  بذلكَ  الأمنيةُ التي طالَ انتظارُها ، وجمعَ كُلَّ هَذَا المالِ لأجلِها ، ومن أجلِها أيضاً ، كانَ حرمانُه !

المسجدُ شديدُ البساطةِ ، مساحتُه تزيدُ قليلاً عن مائةِ مترٍ مربعٍ ، لا يتسعُ إلا  لمأتي مُصلٍ  بالكادِ ، وصُمِمَ في بدايتِه ، بدونِ أسقف ! وبأسوارَ منخفضةٍ !

لم يكنْ خيرُ الدِينِ صحابياً ، ولا تابعياً ، كانَ فقيراً ، كما لم يكنْ مُطالَباً بهَذَا العملِ ، بمفردِه .

لم يكنْ حُلُمُه بناءَ بيتٍ لنفسِه ، بل بناءَ بيتٍ للهِ ، يُذكرُ فيه اسمُه  .

كانَ الرجلُ تقياً نقياً زاهداً ورعاً ، آثرَ الآخرةَ علي الدُنيا ، تحوي ضلوعُه قلباً ، تغلغلَ الإيمانُ في أعماقِه . 

ما هَذَا يا جابر ؟  هكذا سألَه أميرُ المؤمنين ، عمرُ ابْنُ الْخَطَّابِ ، رضي اللهُ عنه وأرضاه ، لما رأي لحماً مُعلقاً بيديِّه ، فأجابَ : اشتهيتُ لحماً فاشتريتُه . فقالَ : أو كلما اشتهيتَ اشتريتَ ، يا جابر ! أما تخافُ هَذِهِ الآيةَ : اَذْهَبتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا .

مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ وهكذا سألَه رسولُ اللهِ ، صلي اللهُ عليه وسلمَ ، قلتُ : يا نبيَّ اللهِ ، وما ليَّ لا أبكي ، وهَذَا الحصيرُ قد أثرَ في جنبِك ! وذاكَ قيصرُ وكسرى في الثمارِ والأنهارِ ، فقالَ ( ص )  : يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، أَلا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الآخِرَةُ ، وَلَهُمُ الدُّنْيَا ؟ قلتُ : بلى يا رسولَ اللهِ .

خيرُ الدِين ، عاشَ فقيراً ، وماتَ كذلكَ ، فارقَ الدُنيا  وبقي أثرُه فيها ، أثرٌ سطرَه التاريخُ إلي الآن ، وكتبَه بأحرفٍ من نورٍ ، فوقَ صحائفَ من ذهبٍ .

وفي حياتِنا أقوامٌ ، أغدقَ اللهُ عليهم من النِعَمِ ، ما لا تُصدقُه العُقولُ ، فكانَ سعيُّهم في الدُنيا ، نحوَ قصورٍ منيفةٍ ، ومركباتٍ فارهةٍ ، ورَغَدٍ من العَيشِ !

هل بنوا مدرسةً ؟ لا

هل داووا مريضاً ؟ لا

هل أغاثوا ملهوفاً ؟ لا

هل أعانوا أرملةً ؟ لا .

هؤلاءِ أحياءٌ فعلاً ، بحُكم الشهيقِ والزفيرِ ، لكنَّهم أمواتٌ حقاً ، بحُكمِ الهدفِ والغايةِ .

قد ماتَ قومٌ وما ماتَتْ فضائلُهم .. وعاشَ قومٌ وهُم في الناسِ أمواتٌ..